كتب عمار السروري:
يوم 25 من شهر مارس سنة 2015 قبل بزوغ الفجر.
إستيقظت من نومي مغصوباً بسبب شدة الضرب الذي كنت أسمعه. وقتها فشلت جميع محاولاتي المتكررة في العودة للخلود إلى النوم. فالضرب لم يكن بأسلحة خفيفية أو متوسطة، بل كان غارات جوية، ولفترة ليست بالقصيرة. وبكسل بحثت عن هاتفي النقال، وشرعت أبحث عبره عن جديد الأخبار. وقتها فقط عرفت بعاصفة الحزم.
طار النوم من عينيَّ فنهضت من فراشي مغتبطٌ مسرور. فقد أراحت وأزاحت عاصفة الحزم ما كان يعتريني من قهر وكآبة سببهما خبث المد الحوثي.
أيامها إشتاط الحوثيون وأعوانهم غضباً، صاروا يعتقلون الناس بشكل عشوائي رهيب. طالت قيودهم كثيراً من قادة الأحزاب والمنتمين لها، ونشطاء وصحفيين، وطلاب جامعيين. لم يستثنوا أحد.
وقامت أيديهم الغادرة بإختطاف العديد من الناس، واقتحام المنازل، فلم يرحموا أحد.
الحرب تبيح كل شيء كما قالوا، خاصة في من وصفوهم بالعملاء والمرتزقة وكل من تعاطف معهم كما أفادوا.
أصبحت صنعاء مدينة أشباح. معظم من سكنها غادرها. لم يبق منهم إلا القليل. يتجولون في شوارع خاوية تعوي فيها الكلاب ليل نهار. الكل إبتعد عن هذه المدينة التي صارت في نظرهم بقدوم الحوثيين ملعونة. غادروها متوجسين وخائفين مما قد يحدث فيها. ورغم ذلك فقد زاد الحوثيون بتصرفاتهم ظلمة ووحشة لها فوق ما أصابها.
في تلك الأيام العصيبة تسللت إلي معلومة عن الأحواز بشكل مفاجئ. أرض عربية بمساحة شاسعة في إيران. شعرت بغرابة وحيرة، وكساني ذهول لا حدود له. عالم غريب، يحمل في داخله الكثير من العجائب والمفاجآت. وقتها نقمت على إعلامنا العربي، الذي وصفته بالفاشل. فقد إكتشفت أن معظم شعبنا العربي لا يعرف عن الأحواز شيئاً. وإن عرف أحدهم فمعرفته محدودة جداً.
إنهمكت أيامها أقرأ عن الأحواز بشغف كان يتزايد بين فينة وأخرى، فهالني وخنقني مايعانيه شعبنا العربي هناك. ظلم لا حدود له، وإعدامات بالجملة لا تفرق بين أحد، وتعذيب بشع تقشعر منه الأبدان، وتتسائل عنه العقول: أي حقد سكن هذه القلوب لتستخدم هذه الأساليب في التعذيب؟؟ لا بد أنها قلوب شيطانية بأجسام بشرية.
غرقت في بحر مظلمٌ وبشع. تهت فيه باحثاً عن مرسى لكن لم أجد. خنقني العجز بقوة أرهقتني حتى لاحت لي فكرة كتابة رواية عن عرب إيران. فكرة وجودهم وحدها حركتني.
تواصلت مع أحوازيين داخل الأحواز وخارجها، وطفقت أسئلهم وأستفسر منهم، أحاول التعرف عليهم ومعرفة ألآمهم وحجم أوجاعهم. حتى كونت فكرة جيدة عنهم. عندها شرعت بالكتابة، وأول مالاح لي في بداية كتابة الرواية هو عنوانها ( الهجرة إلى المقابر ) رغم قساوة العنوان إلا أن حجم الظلم والإظطهاد وغزارة الدماء البريئة هي من كونت حروفه وأنشئت معناه القاسي.
بعد فترة دامت قرابة السنتين، سبحت فيها في بحر الكتابة، أتقلب بين أمواجه المتلاطمة، وأغوص في أعماقه السحيقة، يتجاذبني الألم وتلعب بي عواصفه الهائجة، كطائرة ورقية تاهت داخل عمودٍ هوائيٌ عاصف، وصلت إلى الشاطىء، إلى النهاية.
هكذا أصبحت الرواية شبه جاهزة، لم ينقصها إلا شيء واحد، وهو أن يتم تدقيقها لغوياً ونحوياً. أنا في صنعاء. من هذا المدقق اللغوي الذي سأثق به فأضع بين يديه هذه الرواية الفاضحة، الكاشفة لهؤلاء المجرمين والمبينة لحجم إرهابهم ؟؟
إحترت كثيراً، وأزعجني فكرة موت الرواية. إنتظرت بأمل أياماً وأسابيع، وبالصدفة وجدت أحد المدققين اللغويين. عرضت عليه فكرة تدقيق الرواية – متجنباً الحديث عن هويتها – واتفقت معه على ذلك. سألني يومها عن عنوانها. أجبته بحيرتي في ذلك، وإني إلى هذا الوقت لم اتخذ لها عنواناً محدداً.
طبعت الرواية عند أحد الأصدقاء، متجنباً بذلك مراكز التصوير، فلم يعد هناك أمانٌ في هذه المدينة. ثم قمت بطمس كل كلمة وعبارة ستجعل المدقق ينشىء فكرة عن هويتها. كان هناك العديد من الكلمات والعبارات. من سيقراء الرواية سيعرف حجم ما طمسته محاولاً إخفاء هويتها.
هكذا صارت الرواية مبهمة، غريبة الشكل والمنظر، وركيكة في أحداثها وتنسيقها. عندما سئلني عن المطموس أجبته بعدم إقتناعي بهذه الكلمات والعبارات، وبسيري في طريق تغييرها.
مرت الرواية بثلاث مراجعات من قبل المدقق. وفي كل مرة كنت أقوم بتصحيح ما أشار إليه، ثم أطبع الرواية مجدداً وأقوم بتسليمه نسخة معدلة ومصححة ومطموس منها نفس الكلمات والعبارات.
بعد أن إنتهى من آخر مراجعة. فاجأني بمحاولته في تصنيفي لأحد الأحزاب والجماعات المتواجدة في عالمنا العربي. قال لي: من الكتاب نستطيع أن نعرف هوية الكاتب. فالكتاب جزء لا يتجزاء من كاتبه، وكلما قرأت روايتك وتقلبت في صفحاتها أحاول فهمك وفهم هويتك.
كون عني كثيراً من الإحتمالات. في إحتماله الأول أدخلني في طائفة المذهب الشيعي لأني نسيت طمس مدينة قم من القصة السابعة في فصل ( قصص الأجساد التي علقت على حبال المشانق ). وفي إحتماله الثاني أدخلني في جماعة السلف لأني تحدثت عن تعذيب شاب متدين. أما إحتماله الثالث فقد أدخلني في أحد الأحزاب القومية العربية…… الخ وقتها فقط عرفت أن طمسي للكلمات والعبارات أدخله في متاهة شديدة التعقيد، فحمدت الله عندئذ….
وبعد التدقيق إحترت في نشرها. تواصلت مع أحد رؤساء دور النشر في صنعاء. أرسلت له الرواية. عرفت النتيجة مسبقاً لكني أحببت أن أخوض تجربة نشر الرواية هنا في صنعاء. بعد عشرة أيام راسلني على الإيميل الذي كتبته له في أول صفحة في الرواية.
نصحني بعدم عرضها على أحد، حتى وإن كنت في المناطق المحررة، فهناك من يلعب على الجهتين كما أفاد متحسراً. وأفاد معتذراً عن عدم الموافقة في نشرها، حيث قال: إن تجرأنا ونشرناها سيهاجر بنا الحوثيون إلى المقابر بطريقة قد تكون أبشع مما كتبت.
بعد رسالته هذه بثلاثة أشهر، تبنت دار رواية الخليجية نشر الرواية، وأصبحت الآن في متناول يد القارىء العربي. صرخة حرة في وجه المجرمين، تلاحقهم عبر السنين، فاضحة ظلمهم وخبث قلوبهم، وساردة جرمهم دون خوف أو تخَوّف.
وليعلم القارئ الكريم أن رواية (الهجرة إلى المقابر) لم تنسجها خيوط من الخيال، وأن سجاد (بطل روايتنا) ليس شخصية وهمية، والأحداث التي عاشها وعايشها ليست أضغاث أحلام. ومايحدث لعرب إيران ليس كابوس موحش ولا سراب، وإنما واقع وثقه البؤس والشقاء، وخطته دماء الأبرياء، ولفته البشاعة بصرخات مجروحة إنبعثت من حناجر أجسام أخفتها زنازين جهنمية، وطوقتها حبال مشانق غليظة، ثم أخفتها مقابر وصفت بالملعونة.
ورغم أن أساس الرواية تم نسجه ليحكي عن عرب إيران، الإ أنها تحمل في داخلها الكثير من السطور والصفحات التي وثقت أيضاً بؤس وشقاء الأعراق غير الفارسية من (كرد وبلوش وأتراك)، التي تقع ضمن مايسمى في يومنا هذا بالجمهورية الإسلامية الإيرانية.
عمار السروري @2a2mr
mail2a2mr@gmail.com