البدوي الذي جاء يحذر المدينة

عندما أخذ الشيخ “وصيل” سيارته الوانيت تاركاً حبيبته الصحراء خلفه مسافرا إلى الرياض، لم يكن يعلم أنه ركب آلة زمنية، نعم، لم تكن المسافة التي قطعها من صحراء عفيف الى العاصمة تقاس بالكيلومترات فقط بل كانت تقاس بالسنوات، بعشرات السنين حتى نكون أكثر دقة، “وصيل” شيخ بدوي في أواخر الستينات من العمر، هكذا كان يبدو بلحية بيضاء ناوش أطرافها شيء من الحناء فبدت مثل خيوط زعفران تطرز وجهاً يشع طيبة، اعتمر شماغا أحمر عقله بعمامة بيضاء، وقاد سيارته الوانيت بعد أن تأكد من أن بندقيته وعباءته إلى جواره، ذهنه طوال الطريق مشغول بالعثور على أغنامه المسروقة.. فهو قادم إلى العاصمة ليبلغ عن تلك السرقة، يدفعه الأمل؛ فالأمل أمامه ممتد بامتداد الصحراء القادم منها، غير واع لما ينتظره، فمن تعود مثله على وحشة الصحراء سيلاقي وحشة المستقبل.. الحاضر، وحشة المدينة القاسية، وصيل لم يجرب في حياته وحشة الازدحام قاده القدر وبحث عن مسروقاته، ليكتشف أمرا أجبره على البكاء، شيخ يبكي ياللفاجعة!.
في وسط المدينة كان المؤذن ينادي لصلاة الظهر أوقف وصيل سيارته، وأدى الصلاة جماعة، وعندما انتهى خرج من المسجد ليجد رجلا يقاربه في السن يجلس على فراش ممزق ويلبس ثيابا تغير لونها من الفاقة.. وأين؟، على الرصيف وحوله حاجيات بالية مبعثرة، استغرب وصيل أن يسكن رجل هذا المكان فالعراء في المدينة غيره في الصحراء، سلم على الرجل البائس وسأله عن اسمه وحاله وما الذي أدى به إلى هذا المآل، وفهم أنه تائه عن أهله، وبفطرة صحراوية نقية لا يشبهها سوى صفاء هواء الصحراء، بمثل هذه الفطرة أصبح وصيل يجول الشوارع والطرقات ينادي على أهل هذا التائه غير عابئ بحرارة الشمس والأسفلت وشيخوخته، وغير ملتفت لنظرات الاستخفاف والسخرية، صار يحاول أن يستوقف المارة ليسألهم هل يعرفون أهل هذا الرجل التائه!؟، وسط ازدحام السيارات والبشر من كل جنس ولون كان وصيل يحاول جاهدا إيجاد أهل التائه، نسي أغنامه وسيارته وعندما عاد إليها وجد أن بندقيته وعباءته قد سرقتا!، ولا أحد يرد الصوت.. لا احد يجيب على صوت “وصيل” وهو ينادي عن من يعرف أهل الرجل التائه، استعاذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم وأحضر طعاما تناوله مع صديقه المقطوع على الرصيف، وعلى مدى أسبوعين أصبح ينام بجواره على الرصيف أيضا مصرا على البحث عن أهل التائه، “فكل غريب للغريب نسيب”!، صار وصيل تائهاً مثل صاحبه، محبوساً بين فزعته مع هذا الكسير ومدينة متلاطمة لا تنصت لمناد، نسي أغنامه وبندقيته وعباءته المسروقة، مصراً على عدم الإنصات لتحذيرات رفيقه التائه الأكثر خبرة بالمدينة وأهلها، كان التائه قد وصل مرحلة من اللاجدوى فقنع بوضعه وعاش على الرصيف، وعندما يحذر وصيل من أن الزمن ليس هو الزمن كان وصيل يجهش بالبكاء، أسبوعان على هذه الحالة، إلى أن وجدهما الصحفي المتميز مناحي الشيباني ليخبرنا على صفحات هذه الجريدة هذه القصة الفريدة، لم يسمع صوت مناداة “وصيل” ويتجاوب سوى مناحي، كم من صوت ياترى نسمعه مثل صوت وصيل ولا نجيب!؟، تشابهت علينا الأصوات، بل أصبحنا نضع أصابعنا في آذاننا !، هذا الشيخ الذي أخذ من اسمه كل النصيب أختفى بعد أسبوع من نشر القصة، ولا أحد يعرف لماذا وأين اختفى ؟، هل السبب أن رفيقه التائه وجد بقية من أهل بعدما تعرفوا على صورته، أم لأنه لم يعد يحتمل.
اختفى وصيل مثل ماظهر عاد إلى زمنه وهذا من رحمة الله تعالى به، وكأنه جاء يحذر المدينة وأهلها مما هم فيه، لكنه تحذير مبحوح بصوت خفيض لم يسمع، ولو انتظر وصيل مدة أطول لتحول إلى متشرد آخر، ومن ذا الذي سيصدق قصته!؟، هرب وصيل محتفظا بما تبقى من شيمه، شيء نقرأ عنه كانوا يسمونه الشيم، لم يعلم وصيل أن فزعته تلك كان من الممكن أن تجر عليه الوبال، وكان من الممكن أن تستغل، لم يعد هناك شيء اسمه فزعة أو وصل يا وصيل، وهذا الكنز الذي تحتفظ به في صدرك استمر في الحرص عليه هناك في الصحراء إنه كنز نادر لا يوجد من يقدر ثمنه، ادفنه معك في رمالها فهو عملة لم تعد متداولة في المدينة.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الرياض. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.