في عمق القضايا الشائكة التي نعاني منها اقتصادياً واجتماعياً يمكن تفحص أساس الانحراف وتشخيصه في صورة بسيطة تتلخص بتراجع المضمون لحساب الشكل، لقد أدت عاصفة تسيد الشكل على المضمون واللب والجوهر إلى تزييف واقعنا، فأصبح لدينا صور جميلة – أو هكذا يتخيلها من رسمها – لواقع لا يسر ولا يعبر عن حقيقته، ولقد ضربت هذه العاصفة كل جزء من المفاصل حتى أصبحت من السلوكيات و«السمات» الشخصية والعامة لأفراد وأجهزة ومنشآت وشركات، وهي لم تترك زاوية ولا ركناً إلا مسته ببركتها الرخامية اللامعة.
وحين تعلن الخطوط السعودية أنها بصدد دراسة تغيير «الشعار والهوية» مرة جديدة لا يستغرب المرء، يتفهم ذلك وإن لم يقتنع أو يوافق، وإذا كان تغيير «الشعار» هو «النيولوك» الجديد، فهو لا يبتعد من حيث التشابه حد التطابق عن نفخ الشفايف وحقن الخدود، لكنه في كل الأحوال ومن التجارب المتراكمة لن يغير من حال الأنسجة إلى الأفضل، لتتناغم من نضارة ألوان صنعتها شركة متخصصة بالطلاء.
وهنا لا أتحدث عن «الهدر»، فالتفنن في هذا بلغ حدوده القصوى في حالات متعددة، إنما أتحدث عن الجدوى والإقناع.
كان تغيير الشعار متعارفاً عليه لدى إدارات شركات في القطاع الخاص التي تحسب للكلفة حسابها، ثم انتقل إلى القطاع العام وأضيفت له لاحقاً «الهوية»، وهذه الكلمة الأخيرة جاءت للترجيح بعد أن استنفد تغيير الشعار وحده قيمة «الوقع» المنتظرة للتغيير.
صرفت هيئة الإذاعة والتلفزيون نحو 50 مليون ريال على تغيير «الشعار والهوية» وكانت النتيجة أن تبخر التلفزيون والإذاعة من المشهد المحلي والإقليمي وذهبت الـ50! وقبلها عملت الخطوط السعودية التجربة نفسها ولم يتغير شيء في «الخدمة»، بل تراجعت في مقابل تقدم كثير من الخطوط الأجنبية في خدماتها داخل نطاق الأولى، وشركة الاتصالات لم تكن بعيدة عن هذا الخط السريع لتغيير الشكل. أما المضمون واللب وما ينتظره العميل و«الاقتصاد» فهو باق على ثبات يحسد عليه.
والملاحظ أن الشركات والمنشآت الحكومية أو التي تمتلك فيها الحكومة النسبة الأكبر هي أكثر من غيرها من يحرص على تغيير الشعار و«الهوية» كل فترة مع طاقم إداري جديد. إنهم يريدون استحداث بيئة عمل جديدة ورونق يحاول أن يقول إننا تغيرنا لم نعد كما كنتم تعرفوننا، لأن الصورة السابقة بائسة حد الإحباط، لكن التغيير الإيجابي لا يأتي ولن يأتي بتغيير الشكل، أما «الهوية» فهي كلمة ملتبسة ومفخخة لم يدرك من يحاول إعادة «تنميقها» وزخرفتها بإعادة صياغتها أنه يكاد يمسح هوية سابقة لها تشعباتها وجذورها.
في الغالب الأعم تغيير الشعارات ليس سوى مشجب للهرب من واقع تردٍّ إداري لم يستطع إصلاحه، ليتم اللجوء إلى زخرفته.
-
* الموقع يحدث بإستمرار مع نشر المقالات في صحيفة الإقتصادية .
أحدث التعلقيات
-
أحدث المقالات
الأرشيف
كتب
- هذا الموقع بدعم وإدارة من شبكة أبونواف
روابط
اسعد الله صباحك ابو احمد
مالفائدة من تغيير الرداء من حين للاخر اذا كانت الروح مكبوتة، معايير التعامل مع المستفيدين دائما تأخذ الازدواجية بكل شي. فلن يغير تغيير الشعار الروح الموجودة وتحسين تعاملها