الكرسيّ لو نطق

يتاح لرسام الكاريكاتور ما لا يتاح للكاتب أحياناً في اختزال الفكرة وربما من دون كلمة واحدة، وكلما كان الرسام متميزاً كانت الفكرة أفضل من سطور مقال. ويمثل الكرسي مرسوماً شاغراً فارغاً رمزاً يحوي دلالات كثيرة من القوة والنفوذ والاستئثار، وإذا كان مشغولاً تتغير الدلالات بألوان وفق وضع وهيئة الجالس عليه وحجمه، ولو نطق الكرسي لن يتوقف عن الكلام.
للكرسي طعم ورائحة وسيظل طموحاً للغالبية من الموظفين ولمن هم خارج الوظيفة، وعلى رغم انه من الجمادات إلا أن له مفعولَ السحر، فحتى الكراسي التي ليست لها قيمة تذكر يرفع من شأنها مسمى الوظيفة او ما يطلق عليه «المنصب». هذا الجماد يمكن أن يحدث خللاً في أدمغة البشر ممن يحرصون عليه ساعين أو «لابدين»، فهو من غير أن يشعروا – أحياناً- يحولهم إلى أشخاص آخرين غير الذين كان الناس يعرفونهم، ومن الدماغ يصل التأثير إلى القلب فيمرض.
والكرسي يصنع من خليط البلاستيك والمعادن، لكن أثره على المخلوق من لحم ودم ومخيخ فتاك، ومن القلائل من يسلم من هذا التأثير فلا بد أن يكون محصناً بالتواضع الحقيقي لا المفتعل، لأن الكرسي مرتبط بالكراسي القابعة من حوله في الدائرة او المنشأة الإدارية، والبشر يتعاملون من خلال الكراسي كمقياس، قل لي ما هو كرسيك أحدد تعاملي معك.
من الطبيعي أن يؤثر الكرسي على المتحلقين حوله فلكل منهم هدف او حاجة سواء كانت شرعية او تسلقيّة، وسعابيل بعضهم تقطر وأحلامهم تكبر، لكن من غير الطبيعي أن يؤثر في من يجلس فوقه ليتحول الى أداة في يد الكرسي بدلاً من أن يكون أداة له.
هكذا نتوقع انه من غير الطبيعي حدوث ذلك. لكن واقع الأمر أن الكرسي مثل النار للحديد والمال في كشف التعامل بين البشر، هو أيضاً يقوم بمهمة غير مباشرة في كشف المعادن، انه ببطء يكشف معدن من احتله، مهما حاول أن يخفي هذا المعدن أو يضع عليه طبقة رقيقة لامعة من الذهب أو الفضة، وليس هناك أصعب من فقد الكرسي لمن وصل اليه، ويختلف الأمر بين من وصل بجد وصبر وبين من حصل عليه بضربة حظ أو لحظة قبول تحولت الى مصعد سريع. إن للفقد هنا وقعاً مثل وقع الصاعقة يحتاج بعده الى استعادة توازن تختلف ما بين الفئتين. إلا انها تجربة على كل حال، لها فائدة لمن يبحث عنها ولها ألم لمن لا يستوعبها، ففي أغوار النفس الحال قبل الكرسي ليس كما هو بعده.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الحياة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.