كانت الطائرة على وشك الهبوط، دقيقة أو أقل وتلامس عجلاتها الأمامية أرض المدرج، صديقي الذي يكافح خوفه الطفولي من الطيران، يعلم أيضاً أن لحظات الهبوط والإقلاع هي الأكثر خطورة، حاول صرف ذهنه عن صعوبة اللحظة بتنبيه إحدى المضيفات إلى أن زميلها لازال واقفاً ينهي عملية بيع جوية لأحد الركاب، فيما كان الجميع على مقاعدهم وقد ربطوا الأحزمة، لم تهتم المضيفة كثيراً وتأكدت من ربط حزامها قائلة إنه يعرف ذلك، أنهى المضيف تسوية الحساب، ودفع العربة عائداً بسرعة إلى مؤخرة مقصورة ركاب درجة الأفق، مقصورة قيادة الطائرة تقع في الطرف المقابل، فجأة، شاهد الركاب عربة جوية من عربات المبيعات تمر بسرعة البرق وحدها من دون سائق، انحراف الطائرة استعداداً للهبوط جعل الممر طريقاً متزحلقاً والجاذبية قامت بواجبها والعربة رضخت للقانون، في تلك اللحظات التي لم تستغرق ثواني، ركض المضيف محاولاً اللحاق بها من دون جدوى، صدمت العربة في باب مقصورة قائد الطائرة فانفتح، كنت أعتقد أن مثل هذه الأبواب أصبحت مصفحة وأثبتت العربة أنها كرتونية، لم يعرف الركاب وقتها هل تضرر أحد في مقصورة القيادة، كانت الصدمة قوية جداً، يكفي صوتها ليحدث وحده فزعاً، أخيراً تمكن المضيف من سحب العربة والعودة بها إلى.. حظيرتها، بلع الركاب ريقهم وماعلق به من بقايا عصير رديء، بعضهم استوعب ماحدث وبعض آخر كان يضع كفيه على عينيه خوفاً من الهبوط، وارتاح من مشهد مرعب، الحمدلله، مما زاد في الإثارة ان حركة الطائرة لم تتأثر، بل هبطت بنعومة وسلام على ارض المطار، لم يتأثر قائد الطائرة من الدوي القادم من خلفه بل واصل اداء عمله في تلك اللحظة الحرجة، كان من حقه تخيل اشياء بل ان كثيراً من ركاب الدرجات الاخرى لم يعلم شيئاً، كان من الممكن ان تصيب العربة المندفعة قائد الطائرة او مساعده اوجهاز الحركة، كان من الطبيعي ان يأتي قائد الطائرة بحركة لا إرادية كرد فعل لهذا المجهول القادم من الخلف فيحدث ما لاتحمد عقباه، لكن الله سلم، هذه واقعة حدثت في زمن مضى وعشت لحظاتها، والقصد من إيرادها هنا تقديم نموذج لهفوات صغيرة يمكن ان تحدث كوارث حقيقية.
نحن لانعترف بالانضباط ولا بالاحتراف، اكثرنا لايعرف عن الاحتراف سوى علاقته بكرة القدم، وانا لا اقصد به ذلك الاداء المهني الكامل، شكلاً ومضموناً، ونلاحظ ان من يأمرنا بل من يشرف علينا في نواح كثيرة هو شخص متهاون في تطبيق مايلزمنا به، اصبحت هناك علاقة بينه وبين الشروط التي يراقب انصياع الآخرين لها، وصارت العلاقة بينه وبينها ودية، قد يعتقد انها لاتنطبق عليه، لقد فعلها مراراً، وصار بينهما “فك وربط”، مثل ذاك الذي يعد عدد مرات ربطه لحزام السيارة، وبدلاً من الاحتراف والانضباط نعيش حالة هلامية، تزيدها العلاقات الشخصية هلامية اكثر، موظفون كثيرون يمكن تطبيق ما سبق عليهم، في مسألة التهاون الذي يتم تجاوزه كثيراً لبساطته الظاهرية حتى يصبح عادة، وخرقاً في النظام، وإذا حدثت كارثة فلن يعلم احد حقيقة ماحصل، قد يقال خلل فني، او التماس كهربائي، اختر ماشئت؟
-
* الموقع يحدث بإستمرار مع نشر المقالات في صحيفة الإقتصادية .
أحدث التعلقيات
-
أحدث المقالات
الأرشيف
كتب
- هذا الموقع بدعم وإدارة من شبكة أبونواف
روابط