الحصار

اشتكى لي، عدم استطاعته التخلص من آثار تجارب صعبة مع آخرين، مواقف أسهمت في تضرره، طموحات أخفقت، بسبب ما شخصه… فهو من «قلة الوفاء»، «طعنٌ في الظهر» وغيرها، لذلك أصبح يردد: «اتق شر من أحسنت إليه». يحكم الإنسان من تجاربه أكثر من ما يستفيد من تجارب الآخرين، قلت أيضاً: «اتق شر من فضفضت إليه»، رغبة في تغيير المسار «النكدي» للحوار. ومع التجربة أصبح صاحبي أكثر حكمة، هكذا خُيِّل إليه، ليستخرج سبب التحذير والتحوط ممن «أحسنت إليه» وهو أنك تطمئن إليه أكثر من غيره، أجبته: في هذا دعوة للشك الدائم وهي حال غير صحية بالمرة، كان رده داعياً إلى التأمل والابتسام حينما قال… إذاً لماذا نصحوا برمي الخير في البحر؟!
يمكن فهم تأثر الإنسان بحال ألم… جراء جحود، أو صدمة من صديق أو حتى قريب… إنما هي حال موقتة، لكن عند ما يحملها دائماً في رأسه واضعاً صورتها أمام عينيه مثل غمامة سوداء تتحول إلى مشكلة هو أول من يدفع ثمنها.
أتيت لصديقي بمثال شاهدته في فيلم وثائقي من إنتاج «بي بي سي»، برهان – رمزي – على أن عدم التخلص من ذكريات أو مواقف سلبية يسبب حصاراً خانقاً، تحدث الفيلم الوثائقي عن عادات غريبة لدى بعض البشر، إنها الاحتفاظ بأشياء تعتبر نفايات، من النماذج: سيدة تسكن في شقة وحيدةً، تخزن كراتين وعلباً فارغة وأجهزة قديمة عطلانة أشياء لا تخطر على البال، ترى فيها قيمة لا يراها سواها، النتيجة لم يعد هناك مكان في الشقة الصغيرة من دون مبالغة، أكوام حتى السقف من المخلفات والباب الخارجي يفتح بصعوبة، لا يتوافر مكان للجلوس سوى جزء من مقعد تحشر نفسها فيه أمام تلفزيون تطل شاشته من وسط المخلفات. قلت هذا لصديقي المتألم الذي أهديه هذا المقال، فربما يؤثر المكتوب أكثر من المحكي، مع الاعتذار لمن لا يهمه الأمر.
مسح الذاكرة البشرية أمر صعب مقارنة بمسح ذاكرة الكومبيوتر حتى في الأخير يتحول القرص الصلب إلى بعبع، إنما في مقابل «الفرمتة» للكومبيوتر هناك التسامح للإنسان، هذه القيمة الكبيرة هي في الواقع تخفيف وتنظيف للنفس، التسامح لا يعني أن تقدم رأسك مرة أخرى لمصدر الخطر نفسه.
حسناً ما اللقاح المحصن؟ يظهر لي أنه في عدم توقع الكثير من الآخرين، كلما توقعت أكثر كلما تعرضت لخطر الأذى بصورة أكبر، لكن البعض يضع نفسه طائعاً مختاراً «وديعة» في خزانة آخرين، ثم يفاجأ بأنها تباع في سوق الخردة.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الحياة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

3 تعليقات على الحصار

  1. سليمان الذويخ كتب:

    لولا العنوان
    لقلت ان هذا المقال من صيد خاطر ابن الجوزي ، ذلك الكاتب الذي كلما قرأت له موضوعا كتب قبل مئات السنين … توقعته كتبه قبل اسابيع !!
    وابن جوزي هذا الزمن كثيرون
    لأ ن تربة هذه الأيام خصبة جدا لدرجة انك تجد بعض النباتات تنبت على الأسفلت من عظم الأمر !
    بارك الله فيك ووفقك وكفاك شر من ستحسن اليه !

  2. طارق حسني محمد حسين كتب:

    استاذنا الغالي ابو احمد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
    سلمت الانامل يابو احمد .. باصات يمين شمال واجدت في التسديد .
    سدد الله خطاك. وشكرا

  3. المقام الأسمى كتب:

    أحسنت العزاء
    كلامك وقع على الجرح
    ولكن أعيد..
    حقا احسنت العزاء

التعليقات مغلقة.