أم المعارك الأمريكية

قبل فترة قصير من بداية الحرب على العراق بثت الفضائية العراقية حواراً تلفزيونياً أجراه صحفي غربي مع صدام حسين . سأله الصحفي هل تعتقد أننا سنلتقي مرة أخرى في إشارة إلى الحرب المدمرة المقبلة ونتائجها، رد صدام بتفاؤل طاغ… نعم سنلتقي وحتى بعد عشر سنوات. لكنها ثمانية أشهر بين سقوط التمثال واعتقال مذل لصاحبه.
أربعون عاما من الجبروت و دوس رقاب البشر، أربعون عاما من التسلط والغطرسة والغرور الذي لا يوصف، دروس وعبر ، مقصودة ومدروسة، لا تعد ولا تحصى نراها حية مباشرة خلال عام واحد.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي كانت الفضائية العراقية تمجد في شخصية القائد الملهم، القائد الضرورة، وفي أقل من عام تظهر على القناة نفسها صورة له وقد ألقي القبض عليه والطبيب يفحصه وهو هادئ في غاية الوداعة .
الذي دفع مئات الآلاف إلى القتل حاثا مشجعا و مانحا الأوسمة لم يطلق رصاصة واحدة، والذي يتكرر بث الصور له وهو يطلق الرصاص في الاحتفالات لم يطلق رصاصة واحدة عند اعتقاله، لم ينتحر ولم يقاوم سلاحه الوحيد لحية طويلة كثة تدفع للريبة أكثر مما تفيد في التنكر، قيل إنه تعرض للتخدير من بعض معاونيه في خيانة جديدة، وقيل إنه يتزنر بحزام ناسف لم يفجره، والقيل والقال سيتكاثر، في كل سقوط يقال عن خيانات، لماذا تكثر الخيانات في هذه الأوساط.
لكن ذاك القابع في السرداب الشبيه بالقبر هل يمكن أن يدير مقاومة؟، ذلك الذي استسلم بسهولة، كما قالوا، وشاهدنا صوره ولا كأن له علاقة بالحدث هل يمكن أن يجيش مقاومة. لابد أن الحدث الضخم حقق صدمة كبيرة لمن كانت صورة الفارس الملهم ثابتة في رأسه، ولابد أن خبر الاعتقال سبب صدمة أكبر لمن صنع منه “سفياني” جديد سيفعل وسيفعل، وبنى على هذه الأحلام كثيراً من أوهام.
العراقيون كانوا أول من أصيب بالدهشة والذهول للسهولة التي تم بها اعتقال القائد الضرورة . ويحق لهم الفرح فقد ذاقوا من ويلاته ما ذاقوا. بجدارة متناهية حقق هذا الطاغية لشعبه ولبلاده ولمنطقتنا مآسي وخسائر، قتل ودمار وإفقار تم إنجازه على يديه وحضور مكثف للأجانب وينتهي هكذا ببساطة مثل فقاعة.
لو كان لدى صدام قناة فضائية لربما صور إلقاء القبض عليه أم معارك جديدة ولصنع من هروبه داخل السرداب قصة بطولة مثيرة، ربما اصبح السرداب مزارا سياحيا، لكن لم يعد لديه قناة فضائية، كل الفضائيات صارت في أيدي الأمريكيين وصدام هو الموضوع.
الهدوء الذي بدا على تعابير وجه صدام في الصور التي ظهرت يشير إلى أنه لم يستغرب الجندي أو الطبيب الذي يفحصه ، ترى هل كان يعتقد أنه رئيس فريقه الطبي؟، أم أنه تعود عليه منذ فترة طويلة!؟.
صدام كان تحت أنظار قوات التحالف ولم يكن الوصول إليه صعبا وشاهدنا سهولة القبض عليه، لكن من لم يجد سلاح دمار شامل اضطر لإخراج أخر ورقة أو فقاعة، فقد أستنفد التخويف به ومنه وجاءت مرحلة الحصاد والانتخابات الأمريكية على الأبواب، وهذه أم معاركها.
لكن الإدارة الأمريكية أمام امتحان صعب، وشهور حاسمة، فشلها في تحقيق الأمن لجنودها في العراق سيطوح بها في الداخل ، والطريقة التي سيحاكم بها صدام حسين ومن سيحاكمه ستعريها أكثر فأكثر أمام شعوب المنطقة.

هذه المقالة كُتبت في التصنيف الحياة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.