الجلاد الوظيفي!

أتعس وظيفة يمكن لأحد توليها هي هذه الوظيفة، والمسمى من عندي، وقد تطلق عليها أسماء أخرى، من «التطوير» إلى «إعادة الهيكلة» و»الاستشارة الإدارية»… إلخ، ويحصل أصحابها على رواتب ضخمة، إذ يعتبرون من الجراحين الإداريين مع تخصص دقيق في الاستئصال، تماماً مثل الأطباء الذين لا يجيدون سوى بتر الأطراف والمديرين الذين يلجأون إلى إلغاء مشروع ناجح عند أول عقبة.
أما الوصف الوظيفي لهذا النوع من الوظائف، فهو يتلخص في القدرة على خفض أكبر عدد من العمالة (الموظفين) من المنشأة بأسرع وقت ممكن، مع أقل أعباء مالية وقانونية على المنشأة، ومن الطبيعي أن تتعرض المنشأة في القطاع الخاص إلى صعوبات، أحوال السوق والدورات الاقتصادية تتحكم في ذلك، إذاً من الطبيعي أن تلجأ الشركات إلى خفض عدد موظفيها، لتتمكّن من الاستمرار، إلا أن هناك أساليب عدة لهذه العملية أسوأها هو استخدام الجلاد الوظيفي.
هناك أسماء في القطاع الخاص «السعودي» عرفت بهذا التخصص الدقيق قد لا تكون معروفة للعموم، بعضهم من المواطنين، وآخرون من الأجانب، وفي الغالب يحبّذ لهذه الوظيفة أجنبي، للتخلص من التبعات الاجتماعية، وأهم شرط فيها هو عدم الرحمة، الابتعاد بمسافة كافية وعازلة عن الشأن الإنساني أو حتى التاريخ الوظيفي، والعبرة بالأطراف المستأصلة وحجمها. أما أداة النجاح فيها، فهي القدرة على الإزعاج المستتر والاستفزاز غير المباشر، والتقليل من قيمة الأداء، مع «الزن» المتركز على النقص والبحث الدؤوب عنه.
وضمن هذه القدرة على ابتكار واستنبات ما يوتر الموظفين المستهدفين، تزعج موظفيك من دون ممسك، ليقرروا هم الخروج، وكله بالنظام وداخل حدود النظام، فإذا كان الموظف المطلوب طرده يعمل قهوجياً يمكن نقله ليعمل سباكاً، لأن عقد العمل يقول «وما يكلف به من أعمال» تكليفاً مفتوحاً، ثم تبدأ الأخطاء في السباكة، ويتورم ملف الموظف الهدف بما يستدعي نظاماً أحقية التخلص منه، ولتضخيم الملف أدوات كثيرة، مثل استخدام موظف أو موظفين ضد الهدف المراد طرده، إما بإغرائه بمكتسبات، أو بتهديده بالفصل، لأن في الدرج ملفاً أو جزرة، ويستخدم لهذا الغرض الموظفون الضعفاء والمتسلقون، ويفضّل الأكثر وصولية منهم، وفي مقدمهم أصحاب المبادرة في عرض هذه الخدمات، ليتم زرعهم في أرجاء المنشأة مثل الغربان يأتون له بكل جديد واستباقي من نتائج مشروعه الاستئصالي، وهو يقدم الوعود لهم، وفي الغالب عند الانتهاء من استخدامهم لا يفي بها.
يمكن أن تكون للجلاد الوظيفي ملامح جامدة أو ابتسامة بلاستيكية مبهرة في الطلة الأولى تنافس في اتساعها فوهة «سطل» غسيل، إلا أن استراتيجيته ثابتة وتكتيكاته متغيّرة، ويختلف تعامله مع الموظفين، لأن لكل مقام مقالاً، فإذا توحد بأحدهم قد يظهر على حقيقته وربما لا يظهر، أما إذا قابلهم جميعاً فهو يبدو شخصاً آخر، هذه «الحر بائية» تجعل الموظفين مختلفين في رأيهم تجاهه، فهو يستثمر المبدأ القديم الجديد فرق تسد.
هذه المقالة كُتبت في التصنيف الحياة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

تعليق واحد على الجلاد الوظيفي!

  1. الله يعطيك العافية كفيت ووفيت كأنك اشتغلت في القطاع الخاص وانكويت من هذه النماذج

التعليقات مغلقة.