هل سبق لك وأن قابلت مومياء حية؟، المحرر بهذه الجريدة مناحي الشيباني فعل ذلك يوم الجمعة الماضي.
شيء لا يصدق، رجل متكوم على الرصيف تحول جلده إلى ما يشبه حراشف سمراء سوداء، جنين كهل غطى وجهه بشماغ وستر ما تبقى منه ثوب فقد لونه، تكور على نفسه هارباً إليها، لا يشبهه شيء اللهم إلا صورة لجثة مطمورة تحت ركام جليدي عثر عليها باحثو الآثار في صقيع سيبيريا، ليثبتوا من هذا الاكتشاف أن الإنسان عاش قبل كذا مليون سنة.
الله وحده يعلم كم مليون “هم” قضى على هذا الرجل وحطمه، حطاماً جعله يخشى من مد أطرافه، محاولاً أن يحتل أقل قدر من المكان في هروب إلى أقصاه، جعله ذلك الانكفاء يتحول إلى شيء على الرصيف، شيء بقي له صلة ما بالحياة، صلة لا تتعدى أنه موجود وسطها، كل هذا على الرصيف والجيران همهم فزع أطفالهم من هذا الكائن الرصيفي، وأنا لا ألومهم.
هل أصبحنا مثل من كنا ننتقدهم، أقصد المجتمعات الغربية، هذا يحدث في مجتمعنا الذي لا زلنا نصر على أنه يفيض تكافلاً وتعاضداً وتراحماً وتفقداً، من حق أي فرد أن يختار الحياة التي تناسبه بعيداً عن الدهشة التي يثيرها ذلك الخيار لدى الآخرين، لأنه لا يشبه اختياراتهم، لكن الأمر بالنسبة للمومياء السمراء الحية ليس اختياراً بل احتجاجاً.. اضطراراً، والدليل أن “كبسة مناحي” خلصت المومياء من تكورها المر، لقد فعلت حبات الأرز فعلها، تفككت الأطراف المتيبسة ليقعد ذاك الشيء ونكتشف أنه إنسان أو هو بقية إنسان.
يا ترى ما هي قصة هذا الرجل؟، هل يستطيع مناحي الشيباني أن يجيب؟، ليته يجيب، يروي لنا عن تلك المأساة الماثلة، نريد أن نعرف الأدوار والأبطال، نريد أن نعلم بداية مثل تلك النهاية.
وفيما قد يرى بعض “الحبايب” أن هذا المنظر يشوه رصيفنا الحضاري الذي يجب أن يكون لامعاً في كل وقت، بأي شكل، ويجب أن يطمر أي تشويه له أو ينزوي، لا يهم إلى أين المهم أن يختفي، لا يمكن إلا تقدير عمل المحرر المتميز، لقد تعود قراء “الرياض” من الشيباني مناحي ملاحقته لمواضيع خلف الكاميرا بعيداً عن الضجيج والفلاشات، هو ينحاز إلى قضايا إنسانية بكر يجد صداها أول ما يجده في داخله، وهي قضايا تحتاج إلى رصد صبور والتقاط متأن لتبقى راسخة في الذاكرة.
المصور حاتم أحاط بالمشهد من كل جانب، من النادر أن يأخذ المصور الصحفي وقته، هو دائماً مشحون ملاحق ومعرض للإبعاد، لا يتاح له سوى لحظات لأخذ اللقطة وهي لا تنتظر، في الحفلة على الرصيف، انتظرت كل اللقطات فأجاد حاتم وحاول أن يكشف لنا ما تخفيه المومياء الحية، وكانت لقطات للسطح رغم جهد المحاولة.
المومياء الحية تخفي قصتها داخلها لكنها بالبحث عن ظل الرصيف وذلك الهروب نحو الأرض تعلن أن مؤسساتنا الاجتماعية لا تستقبل إلا من يسعى إليها، هذا إذا وجد الاستقبال أمام شح الإمكانيات وروتينية الإجراءات وكيف يسعى من تكورت أطرافه!.